فصل: قال في ملاك التأويل:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من لطائف وفوائد المفسرين:

.قال في ملاك التأويل:

قوله تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [العنكبوت: 8] وفي سورة لقمان: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [لقمان: 14- 15] وفي سورة الأحقاف: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} إلى قوله: {مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [الأحقاف: 15] اشتملت هذه الآي في السور الثلاث على التعريف بما يجب من حقوق الوالدين وما يرعى لهما ومنتهى ذلك وغايته وقد اجتمعت في هذا المعنى ثم اختلف إيرادها ففي العنكبوت والأحقاف حسنًا ولم يرد ذلك في سورة لقمان وفي العنكيوت {لتشرك} بتعدية الفعل باللام وفي لقمان: {عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي} فعدّى بعلى وفي لقمان: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} ولم يرد ذلك في السورتين وفي لقمان: {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} وفي الأحقاف: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرً} وفي لقمان والأحقاف ذكر الأم منصوصًا عليها وورد ذكرها في العنكبوت مجملًا وفي العنكبوت ولقمان التعريف بالرجوع إليه سبحانه ولم يرد ذلك في الأحقاف فيسأل عن هذا؟ وعن وجه اختصاص كل سورة من الثلاث بما خصت به؟ وإن كان ذلك حاصلًا من جواب ما تقدم فتلك تسعة أسئلة.
والجواب عن الأول: أن بناء آية العنكبوت على قص سعد بن أبي وقاص وما كان من فعل أمة وحلفها على ألا تأكل ولا تشرب ولا تستظل حتى يرجع سعد إلى دينها والقصة مشهورة فنزلت الآية ولما لم يقصد غير هذا اكتفى بالتنبيه على الإحسان بهما ما لم يدعوا معًا أو أحدهما إلى الشرك ولما كان حكمًا لا يخص أبًا من أم لم يحتج إلى التنصيص على أحدهما فوقع الاكتفاء هنا بقوله: {حسنًا} ونصبه على الحال لأن المصدر إذا حذف اكتفاء بصفته فانتصابها عند سيبويه رحمه الله على الحال ذكر ذلك في باب وأما ورود حسنًا في الأحقاف فلما قصد فيها من البسط والإطالة حسبما تبين بعد وقد انجر في هذا الجواب عن السؤال السابع.
والجواب عن السؤال الثاني: أن النهي عن الشرك ورد في سورة العنكبوت لبناء الآية وما قبلها على ذكر ذلك وهو المراد بالفتنة الوارد ذكرها في مطلع السورة. وورد في آية لقمان لما تقدم من قول لقمان لابنه: {يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13] ولم يرد في سورة الأحقاف لأن آية الأحقاف فيمن كان مؤمنًا ألا ترى قوله: {أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [الأحقاف: 15] إلى ما بعد هذا ولا مدخل هناك للشرك.
والجواب عن السؤال الثالث: أن وقله في سورة العنكبوت: {لِتُشركَ بِي} بتعدية الفعل باللام وتعديته في آية لقمان بعلى فإنما ذلك لفرق ما بين الآيتين في السورتين من حيث بناء آية العنكبوت على الإيجاز فناسب ذلك الاكتفاء باللام وبناء آية لقمان على الإطالة فناسب ذلك لتعدية بعلى ولو قدرنا عكس الوارد لما ناسب فجاء مل على ما يناسب.
والجواب عن السؤال الرابع: أن قوله في آية لقمان: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} أمر بالرفق بهما والقيام من حقهما بما ليس بمعصية ولما كان مبنى الآية على الأمر بما يفعل بهما ومعهما من غير تقدم مطلب لهما وإنما ذلك على التعريف بما ينبغي أن يكون الأمر معهما ناسبة الوارد هنا من قوله: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} ولما كانت آية العنكبوت مبنية على حكم من طلب من الأبوين الشرك والرجوع إلى الكفر كما تقدم لم يناسب ذلك أن يقال فيهما: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} لما كان يكون فيه- بالسابق من ظاهر الكلام- من الإذن في الصغو إلى مطلبهما وهو ما لا يمكن أن يؤذن فيه لا ظاهرًا ولا باطنًا فلم يرد هنما ما كان يوهم جوازًا ولو في إراءتهما الانقياد لهما في الظاهر مع اعتقاد ما يجب اعتقاده في الباطن من التوحيد كما في آية الإكراه من قوله تعالى: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} [النحل: 106] وإنما قصد هنا العزم على ما هو الحق وألا يصغى إلى مرادهما لا ظاهرًا ولا باطنًا إذا جاهدا في طلب الشرك فلك يكن ليناسب ولا ليلائم ورود: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} في آية العنكبوت بوجه.
وأما آية الأحقاف فمبنية وواردة على حال إيمان الموصى بوالديه وقد علم المؤمن ما يلزمه من أبويه المؤمنين وأنه أكبر من الموصى به في آية لقمان فجاء كل على ما يجب.
والجواب عن السؤال الخامس: أن قوله: {وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ} المراد به الضعف وقوله في الأحقاف: {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا} المراد أنها حملته ووضعته على صفة من المشقة تكره ولا تراد فتحصل من الآيتين الإخبار بحاليهما من الضعف والكراهة فلا تعارض.
والجواب عن السؤال السادس: أن قوله تعالى في سورة لقمان: {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} وقوله في الأحقاف: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} لا تعارض بينهما لأنهما إخباران عن قضيتين لأن الحمل والفصال مدتان ومدة الحمل غير مدة الرضاع فأخبر في الآية الواحدة عن مجرد مدة الرضاع وفي الثانية عن المدتين وقد تقدم التنبيه على انجرار السؤال السابع.
والجواب عن السؤال الثامن: من أن قوله تعالى في العنكبوت ولقمان: {إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ} تحذير من طاعتهما في الشرك وإبلاغ في النهي عن الصغو إليهما في ذلك إلى الغاية لئلا يظن أن ذلك كآية الإكراه {كما} تقدم ولما لم يقع في آية الأحقاف ذكر الشرك وكانت فيمن كان على إيمان وقد علم المؤمن رجوعه إلى ربه لم يردف فيها ذكر ذلك.
والجواب عن السؤال التاسع: حاصل في الجواب المتقدم وتلخيصه أن تخصيص هذه السورة بما ورد فيها مختلف بهذا السياق لما لم يذكر وقد مر. أما آية العنكبوت فلما تقدم ذكره من قصة سعد. وأما آية لقمان فلتقدم قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13] وأما سورة الأحقاف فلما انجر في جواب السؤال الرابع. اهـ.

.من لطائف القشيري في الآية:

قال عليه الرحمة:
{وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا}.
أَمَرَ اللَّهُ العِبادَ برعاية حقِّ الوالدين تنبيهًا على عظم حق التربية. وإذا كانت تربيةُ الوالدين- وهي إِنْ حَسُنَتْ- فإِلى حدٍّ يوجِبُ رعايتهما فما الظنُّ برعاية حق الله تعالى، والإحسانِ العميمِ بالعبد والامتنان القديم الذي خصَّه به مِنْ قَبْلُ ومِنْ بَعْدُ؟!.
قوله جلّ ذكره: {وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِى مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَآ إِلَىَّ مَرْجِعُكُمْ فَُأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}.
إنْ جاهداك على أن تُشْرِكَ بالله فإياك أَنْ تطيعَهما، ولكن رُدَّ بِلُطْفٍ، وخالِفْ برفْقٍ.
{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ (9)} أي لنلحقنهم بالذين أصلحوا من قبلهم، فإن المعهود من سُنَّتِنا إلحاق الشكلِ بشكله، وإجراء المِثْلِ على حُكْمِ مِثْلِه. اهـ.

.قال السبكي:

قال الشيخ الْإِمَامُ رَحِمَهُ اللَّهُ قَوْله تعالى: {وَاَلَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ} فِي جُمْلَتِهِمْ أَوْ فِي مُدْخَلِهِمْ، وَالصَّلَاحُ مِنْ أَبْلُغْ صِفَاتِ الْمُؤْمِنِينَ؛ وَهُوَ مُتَمَنَّى أَنْبِيَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِذَا أَرَدْت مَعْرِفَةَ ذَلِكَ اُنْظُرْ قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {إنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إذَا صَلُحَتْ صَلُحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ} وَانْظُرْ صَلَاحَ الْقَلْبِ بِالْإِيمَانِ وَالْعِرْفَانِ وَالْأَحْوَالِ وَصَلَاحَ الْجَسَدِ بِالطَّاعَةِ وَالْإِذْعَانِ، وَالْخَلَائِقُ يَتَفَاوَتُونَ فِي ذَلِكَ تَفَاوُتًا كَبِيرًا، فَصَلَاحُ الْعَبْدِ بِصَلَاحِ قَلْبِهِ وَبَدَنِهِ عَلَى قَدْرِ مَقَامِهِ.
وَهِيَ صِفَةٌ ذَاتِيَّةٌ لَهُ بِفَضْلِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ وَإِتْيَانِهِ إيَّاهَا لَهُ وَمَا سِوَاهَا مِنْ النُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ وَغَيْرِهِمَا نَاشِئٌ عَنْهَا فَلِذَلِكَ كَانَتْ أَعْظَمَ الصِّفَاتِ، وَقَوْلُ مَنْ قَالَ الصَّالِحُ مَنْ قَامَ بِحَقِّ اللَّهِ وَحَقِّ الْعِبَادِ كَلَامٌ إجْمَالِيٌّ لَا يُنَبِّهُ عَلَى مَا قُلْنَاهُ؛ لَكِنَّهُ إذَا شَرَحَ مَا فِيهِ مِنْ الْعُلُومِ يَسْتَلْزِمُ ذَلِكَ وَإِنَّمَا السِّرُّ فِي الْمَعْنَى الَّذِي نَبَّهْنَا عَلَيْهِ، وَهِيَ صِفَةٌ حَقِيقِيَّةٌ يَخْلُقُهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي ذَاتِ الْعَبْدِ وَيُفِيضُهَا عَلَيْهِ يَقْرُبُ بِهَا مِنْهُ وَيَنَالُ بِهَا سَعَادَةَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَصَلَاحُ كُلِّ أَحَدٍ بِحَسَبِ حَالِهِ.
فَأَعْظَمُ الصَّلَاحِ صَلَاحُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انْتَهَى. اهـ.

.تفسير الآيات [10- 13]:

قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ (10) وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ (11) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (12) وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ (13)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما كانت ترجمة ما مضى من قسم الراجي والمجاهد والعامل للصالح: فمن الناس- كما أشير إليه- من يؤمن بالله، فإذا أوذى في الله صبر واحتسب انتظارًا للجزاء من العلي الأعلى، ولكنه حذف من كل جملة ما دل عليه بما ذكر في الأخرى، عطف عليه: {ومن الناس} أي المذبذبين {من يقول} أي بلسانه دون طمأنينة من قلبه: {آمنا بالله} أي الذي اختص بصفات الكمال، وأشار بعد الإيماء إلى كثرة هذا الصنف بالإسناد إلى ضمير الجمع- إلى أن الأذى في هذه الدار ضربة لازب لابد منه، بقوله بأداة التحقيق: {فإذا أوذي} أي فتنة له واختبارًا من أيِّ مؤذ كان {في الله} أي بسبب كونه في سبيل الله الذي لا يدانيه في عظمته وجميع صفاته شيء، ببلاء يسلط به عباده عليه {جعل} أي ذلك الذي ادعى الإيمان {فتنة الناس} أي له بما يصيبه من أذاهم في جسده الذي إذا مات انقطع أذاهم عنه {كعذاب الله} أي المحيط بكل شيء، فلا يرجى الانفكاك منه، فيصرف المعذب بعد الشماخة والكبر إلى الخضوع والذل، لأن لا كفؤ له ولا مجير عليه، فلا يطاق عذابه، لأنه على كل من الروح والجسد، لا يمكن مفارقته لهما ولا لواحد منهما بموت ولا بحياة إلا بإرادته حتى يكون عمل هذا المعذب عند عذاب الناس له الطاعة لهم في جميع ما يأمرون به ظاهرًا وباطنًا، فيتبين حينئذ أنه كان كاذبًا في دعوى الإيمان، وقصر الرجاء على الملك الديان، وأشار إلى أن الفتنة ربما استمرت إلى الممات وطال زمنها بالتعبير بأداة الشك، وأكد لاستبعاد كل سامع أن يقع من أحد بهت في قوله: {ولئن جاء نصر} أي لحزب الله الثابتي الإيمان.
ولما كان الإحسان منه إنما هو محض امتنان، فلا يجب عليه لأحد شيء، عبر بما يدل على ذلك مشيرًا إلى أنه يفعله لأجله صلى الله عليه وسلم فقال: {من ربك} أي المحسن إليك بنصر أهل دينك، تصديقًا لوعدك لهم، وإدخالًا للسرور عليك، ولما كانت هذه الحالة رخاء، عبر بضمير الجمع إشارة إلى نحو قول الشاعر:
وما أكثر الإخوان حين تعدهم ** ولكنهم في النائبات قليل

فقال: {ليقولن} أي هؤلاء الذين لم يصبروا، خداعًا للمؤمنين خوفًا ورجاءً وعبر في حالة الشدة بالإفراد لئلا يتوهم أن الجمع قيد، وجمع هنا دلالة على أنهم لا يستحيون من الكذب ولو على رءوس الأشهاد، وأكدوا لعلمهم أن قولهم ينكر لأنهم كاذبون فقالوا: {إنا كنا معكم} أي لم نزايلكم بقلوبنا وإن أطعنا أولئك بآلسنتنا.
ولما كان التقدير: أليس أولياؤنا المتفرسون بأحوالهم عالمين؟ عطف عليه منكرًا قوله: {أو ليس الله} المحيط بعلم الباطن كما هو محيط بعلم الظاهر {بأعلم بما في صدور العالمين} أي كلهم، منهم فلا يخفى عليه شيء من ذلك إخلاصًا كان أو نفاقًا، بل هو أعلم من أصحاب الصدور بذلك.
ولما أنكر عدم العلم، صرح بالعلم فقال واعدًا متوعدًا، عاطفًا على ما أفهمه السياق من نحو: فقد علم الله جميع ما أخفوا وما أعلنوا: {وليعلمن الله} أي المحيط علمًا وقدرة في عالم الشهادة حتى ينكشف ذلك لديكم كما هو عالم به في عالم الغيب {الذين آمنوا} أي وقع منهم إيمان، وليعلمن المؤمنين إيمانًا صادقًا بما يواليه عليهم من المحن، وهم لا يزدادون إلا تسليمًا ورضى، وأكده لما قدم من أن الناس حسبوا أنهم لا يفتنون {وليعلمن} الذي نافقوا وليعلمن {المنافقين} بمثل ذلك من الزلازل والفتن التي يميلون معها كيفما ميّلتهم، حتى يعلم كل من له لب أنه لا إيمان لهم كما أنه لا أيمان لهم، ولا شك أنه يعامل كلًا من الفريقين بما يستحق على حسب ما يعلم من قلبه، والآية من الاحتباك كما مضى عند {وليعلمن الله الذين صدقوا}.
ولما كان السياق للفتنة والأذى في الله المحقق أمره بإذا دون إن وكان الكفار يفتنون من أسلم في أول الأمر، ذكر سبحانه بعض ما كانوا يقولون لهم عند الفتنة جهلًا بالله وغرورًا، فقال معجبًا منهم، عاطفًا على {ومن الناس من يقول} {وقال الذين كفروا} اغترارًا منهم بالله، وجرأة على حماه المنيع {للذين} أي لطائفة من يقول بلسانه: آمنا بالله، وهم الذين {آمنوا} أي حقيقة، جهلًا منهم بما خالط قلوبهم من بشاشة الإيمان، وأنوار العرفان: {اتبعوا} أي كلفوا أنفسكم بأن تتبعوا {سبيلنا} أي طريق ديننا، وعطفوا وعدهم في مجازاتهم على ذلك بصيغة الأمر على أمرهم باتباعهم للدلالة على أنه محقق لا شك فيه فقالوا: {ولنحمل خطاياكم} بوعد صادق وأمر محتوم جازم، إن كان ما تقولون حقًا إنه لابد لنا من معاد نؤاخذ فيه بالخطايا، ولو دروا لعمري ما الخبر، يوم يقولون: لا مفر، ما عرضوا أنفسهم لهذا الخطر، يوم يود كل امرىء لو افتدى بماله وبنيه، وعرسه وأخيه، وصديقه وأبيه، ويكون كلامهم- وإن كان أمرًا- بمعنى الخبر لأنه وعد كذبه سبحانه لأن معناه: إن كتب عليكم إثم حملناه عنكم بوعد لا خلف فيه {وما هم} أي الكفار {بحاملين} ظاهرًا ولا باطنًا {من خطاياكم} أي المؤمنين {من شيء} وهم يقدرون أن لا يحملوا، أو حملًا يخفف عنهم العذاب، أي إنهم إذا عاينوا تلك الأحوال، وطاشت عقولهم في بحار هاتيك الأهوال، التي لا يقوم لها الجبال، تبرؤوا ممن قالوا له هذا المقال، فقد أخبروا بما لا يطابق الواقع، ويجوز أن يكونوا تعمدوا الكذب حال الإخبار إن كانت نيتهم أنهم لا يفون على تقدير تحقق الجزاء.
ولما علم من هذا كذبهم بكل حال سواء تعمدوا أو لا، صرح به تأكيدًا لمضمون ما قبله، مؤكدًا لأجل ظن من غروه صدقهم في قوله: مستأنفًا: {إنهم لكاذبون}.
ولما كان كل من أسلك أحدًا طريقًا كان شريكه في عمله فيها، فكان عليه مثل وزره إن كانت طريق ردى، وله مثل أجره إن كانت سبيل هدى، قال تعالى مؤكدًا لإنكارهم الآخرة وكل ما فيها: {وليحملن} أي الكفرة {أثقالهم} التي حملوها أنفسهم الضعيفة بما اكتسبوا {وأثقالًا} أخرى لغيرهم {مع أثقالهم} بما تسببوا به من إضلال غيرهم، ومن تأصيل السنن الجائرة الجارية بعدهم، فمن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة من غير أن ينقص أحدهم من حمل الآخرة شيئًا.
ولما كان للسؤال على طريق الازدراء والإذلال، من الرعب في القلب ما ليس للأفعال قال: {وليسألن} أي من كل من أمره المولى بسؤالهم {يوم القيامة} أي الذي هم به مكذبون، وله مستهينون والتأكيد إما لإنكارهم ذلك اليوم، أو لظن أن العالم لا يسأل عما يعلمه، {عما كانوا} أي بغاية الرغبة {يفترون} أي يتعمدون كذبه، ويُعملون أفكارهم في ارتكابه ويواظبون عليه، والتعبير بصيغة الافتعال يدل على أنهم كانوا يعلمون صدق الرسول صلى الله عليه وسلم ويتعمدون الكذب في وعدهم لمن غروه. اهـ.